هذه القصيدة مثال نادر على حوارٍ بين العصور والشعوب، كُتبت باللغة العربية وترجمها مؤلفها إلى الروسية. مؤلفها هو الدكتور سمير الخطيب، كاتب وشاعر وروائي فلسطيني وطبيب، ورئيس جمعية خريجي الجامعات الروسية والسوفييتية في إسرائيل. في أعماله تمتزج الفلسفة بالمعاناة الإنسانية، وتصبح قضايا الهوية والحرية والمقاومة الفكرية محوراً أساسياً فيها.
في قصيدته «توأمان في سفر القدر» يقيم الخطيب مقارنة بين لينينغراد وغزة، مدينتين عاشتا الحصار والجوع وامتحان الإنسانية. ومن بين برد نهر نيفا وغبار شوارع غزة المهدّمة يتردّد السؤال ذاته: ما الذي يجعل الإنسان إنساناً حين ينهار كلّ ما حوله؟
هذه القصيدة ليست مجرّد مقارنة بين مأساتين، بل هي نشيد للصمود والرحمة والذاكرة، وتذكير بأن الإنسان، في كلّ حصارٍ سواء كان واقعياً أو تاريخياً، يظلّ قادراً على الحبّ والعطاء، حتى عندما لا يبقى له شيء
على ضفاف نيفا حيث يَتَجمَّدُ الصمتُ بين أسنان الجليد،
وفي رمال غزة حيث تَلْفَحُ الشمسُ جباهَ الأطفال كأنها تُوقِدُ نارًا في قلوبهم،
تقف مدينتان، لا تجمعهما خريطةٌ ولا زمن،
لكنّ القدرَ يُمسكُ بيديهما كأنهما توأمان نُزعا من رحمٍ واحد،
يَشرَبان من كأسِ المحنة ذاتها،
ويَحمِلان على ظهورهما سماءً من رصاصٍ ودخان.
ليننغراد!
يا مدينةَ بطرس التي تَنهضُ من تحت الثلج كأنها أسطورةٌ ترفض أن تُنسى،
تسعمائة ليلةٍ من الجوع الذي يَلتهمُ الأضلاع،
وتسعمائة نهارٍ من الموت الذي يَمشي حافيَ القدمين في الأزقة.
كان الخبزُ يُقاسُ بالغرامات،
وكانت الأمُّ تُقسِّمُ لُقمةَ الحياةِ بين أبنائها،
ثم تَنامُ نومةً لا تَستيقظُ منها،
لكي يَبقى في عيونهم شمعةٌ من ضوء.
في شوارعها المتجمِّدة، كان الإنسانُ يتساقطُ كأوراق الخريف،
لكنَّ السيمفونيةَ السابعةَ كانت تَصعدُ من مكبّرات الصوتِ كصرخةٍ حيّة:
“نحن هنا! نحن أحياء!”
كأنّ الفنَّ، في لحظةِ العُريِ الأقصى،
يَصيرُ درعًا، وسلاحًا، وشهادةَ ميلادٍ جديدة.
وغزة!
يا ابنةَ البحرِ التي سُلِبَ منها الموجُ فصارَ سجّانًا،
والسماءُ التي كانت تُعدُّ ملاذًا، صارتْ عينًا تراقبُ كلَّ نفسٍ تَخرجُ من صدرٍ منهك.
الحصارُ هنا ليس تسعمائة يوم،
بل آلافُ الليالي التي تَتراكمُ كالرمالِ على القلوب،
حتى يَصيرَ التنفُّسُ تَحدّيًا،
والحياةُ صمودًا يوميًّا ضدَّ الموتِ المُعلَّقِ في الهواء.
هنا أيضًا، تُقسِّمُ الأمُّ لُقمةَ الخبزِ كأنها تُقسِّمُ روحاً،
وهنا أيضًا، يَموتُ الأطفالُ لا من جُرحٍ، بل من جوعٍ يَلتهمُ البراءةَ قبلَ الجسد.
لكنّهم، رغم كلِّ ذلك،
يَرسمونَ البحرَ على جدرانِ المخيمات،
ويكتبونَ على الأنقاضِ: “نرفض نحن نموت.”
ما الذي يربطُ بين مدينتين تفصلُ بينهما قاراتٌ وعقود؟
أهو الجوعُ الذي يَمضغُ الأرواحَ ببطءٍ قاتل؟
أم الكرامةُ التي تَرفضُ أن تنحني، حتى حينَ تَنكسرُ العظام؟
أم هو ذلك الخبزُ المُقسَّمُ بين الجياع،
الذي يَصيرُ في لحظةِ العُريِ الإنسانيِّ عهدًا مقدّسًا،
وشهادةَ ولاءٍ للإنسانِ في أخيه الإنسان؟
في ليننغراد، كان الجارُ يفتحُ بابَه للغريبِ المتجمِّد،
ويُعطيه نصفَ بطانيّته، وربعَ رغيفه، وقلبه كله.
وفي غزة، يُضيءُ الطفلُ شمعةً تحت الأنقاضِ ليُنهي واجبه،
ويُخبّئُ الشاعرُ قصيدتَه في جيبِ قميصه الممزّق،
ليقولَ للعالم: “نحن لسنا أرقامًا في تقريرٍ، نحن أحياءٌ رغم كلِّ شيء.”
هناك، في أقصى درجاتِ الانهيار،
لا يَصيرُ الإنسانُ وحشًا،
بل يَصيرُ أكثرَ إنسانيةً:
يَحملُ جارَه المُنهكَ على كتفيه،
ويُسقي الجريحَ من جُرحِه،
ويُشاركُ الآخرَ آخرَ نفسٍ في صدره.
لأنّ الإنسانيةَ لا تُقاسُ بالرخاء،
بل بكيفيّةِ العطاءِ حين لا شيءَ يبقى.
على ضفاف نيفا، تعلّمنا أنّ الحياةَ أقوى من الموت،
وأنّ الكتابَ يُقرأُ حتى على ضوءِ شمعةٍ تذوبُ في البرد.
وعلى شواطئ غزة، تُولَدُ الأمهاتُ من جديدٍ في كلِّ ولادةٍ تحت القصف،
ويَكتبُ الأطفالُ على الجدرانِ ما لا يَستطيعُ التاريخُ أن يكتبه:
“كنا هنا. كنا بشراً. كنا نحبّ، نحلم، نُقسّمُ الخبز، ونُضيءُ الأمل.”
توأمان في سِفرِ الزمان،
لا يفصلُ بينهما سوى المسافةُ بين “كُنّا” و”سنكون”،
يشهدانِ على أنّ الإنسانَ، حين يُواجهُ الهاوية،
لا يقفزُ فيها،
بل يبني جسرًا من كسراتِ الخبزِ ودموعِ الأمهاتِ وقصائدِ الصغار.
وفي نهايةِ كلِّ حصار—أيّ حصار—
لا يبقى سوى الذاكرةِ والقصيدة.
الذاكرةُ التي تَحتفظُ بأسماءِ الموتى كأنهم أحياء،
والقصيدةُ التي تَهمسُ للزمن:
“كنا هنا… كنا بشراً…
تقاسمنا الخبزَ، والدموعَ، والأملَ،
ولم ننكسر.”
فليشهدِ التاريخُ، وليشهدِ الغدُ،
أنّ ليننغرادَ وغزةَ،
تقولان للعالمِ من عمقِ الجرح:
“طالما فينا نفسٌ تتنفّسُ، فنحنُ لسنا مهزومين.”
