في تطور غير مسبوق، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر منشور نشره على منصته “تروث سوشيال” عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران دخل حيز التنفيذ صبيحة الثلاثاء الماضي، بعد حرب شاملة ومفتوحة بين الطرفين هي الأولى منذ عقود من المواجهة الصراع بالوكالة، والتي تُعدّ أعنف مواجهة تشهدها المنطقة منذ احتلال العراق. جاء الاتفاق عقب رد إيراني محسوب استهدف قاعدة العديد في العاصمة القطرية الدوحة، ردًا على ضربة أمريكية محدودة ودقيقة استهدفت منشآت البرنامج النووي الإيراني، شكّلت رغم تضارب الادعاءات حول نتائجها ذروة التصعيد وأداة الحسم المؤقت في هذه الجولة من الصراع. وبينما توقف القتال ميدانيًا، فإن الحرب لم تنتهِ، بل انتقلت إلى طور سياسي ودبلوماسي حساس، في وقت يسارع فيه كل طرف إلى تقديم روايته الخاصة عن “الانتصار”، بينما تظل الحقيقة مركبة وموضع جدل واسع.
بالنسبة لإيران، كان الهدف الأهم والأكبر من الضربة الإسرائيلية جليًّا وهو إسقاط النظام، بينما مع مرور أيام الحرب الى جانب تدمير البرنامج النووي ومشروع الصواريخ الباليستية بعيدة المدى. مع ذلك، سوّقت طهران فشل تحقيق هذه الأهداف كدليل على “الانتصار الاستراتيجي”. فبعد الضربة الاستباقية، استعادت إيران زمام المبادرة بسرعة، متجاوزةً الفوضى المؤقتة التي سبّبتها الضربة الاستباقية، لتعيد ترتيب صفوفها وتنتقل من الدفاع إلى الهجوم خلال ساعات. وخلال 12 يومًا من التصعيد، أطلقت إيران نحو 600 صاروخ وأكثر من 1000 طائرة مسيّرة باتجاه العمق الإسرائيلي تجاه أهداف عسكرية ومدنية، ما أسفر عن سقوط العشرات من الصواريخ الباليستية على مدن رئيسية ومناطق مدنية مأهولة مثل تل أبيب، ورمات غان، وبئر السبع، وحيفا، وأشدود، وهود هشارون، والخضيرة. وأسفر التصعيد بمجمله عن مقتل 29 شخصًا وإصابة أكثر من 3200 آخرين، إلى جانب خسائر اقتصادية تجاوزت عدّة مليارات من الشواقل.
وقد طالت الضربات الإيرانية أهدافًا حساسة واستراتيجية شملت منشآت عسكرية وأمنية ومدنية حيوية؛ منها قواعد سلاح الجو في رامون، ونيفاتيم، ورمات دافيد، وميرون، وقاعدة جليلوت، ومقر قيادة الجبهة الشمالية، إضافة إلى مفاعل ديمونا النووي، ومستشفى سوروكا الذي اضطر إلى الخروج عن الخدمة مؤقتًا، ومبنى وزارة الدفاع (الكرياه)، ومقر البورصة في رمات غان، ومطار بن غوريون الدولي ومعهد وايتزمان للعلوم. كما استُهدفت منشآت البنية التحتية الحيوية، مثل مصانع تكرير النفط والمواد الكيميائية في حيفا، مما تسبب بمقتل ثلاثة أشخاص وإخراجها عن العمل بالكامل, إلى جانب استهداف محطة الكهرباء في أشدود، مما تسبب في انقطاع التيار عن أكثر من 8000 منزل.
ومن الجدير الإشارة إلى أن إيران اعتمدت بعد استعادتها زمام المبادرة والهجوم على استراتيجية الاستنزاف في ردّها، مركّزة على إطلاق أعداد كبيرة من الطائرات المسيّرة في موجات متكررة ومتزامنة، بهدف مشاغلة وإرهاق الدفاعات الجوية الإسرائيلية، واستنزاف بطاريات الاعتراض المنتشرة. وقد أدّت هذه الاستراتيجية إلى تراجع نسبي في كفاءة الدفاعات، ما سمح لوصول عدد من الصواريخ الباليستية الدقيقة إلى أهدافها، حتى في بعض الرشقات الصغيرة، بفعل الإنهاك والضغط المستمر على منظومات الدفاع.
أما إسرائيل، فقد قدمت المشهد على أنه ضربة استباقية تاريخية، ونسبت إلى نفسها وإلى واشنطن الفضل في “إزالة التهديد النووي الإيراني”. وأكدت تمكنها من اغتيال عدد من كبار قادة الحرس الثوري، وتدمير منشآت دفاعية متقدمة، بالإضافة إلى قواعد عسكرية وصاروخية، ومقرات تابعة للحرس، إلى جانب منشآت نووية وما وصفته بـ”رموز النظام الإيراني”. وأسفرت العملية عن شلل مؤقت شبه كامل في منظومات القيادة والسيطرة لدى إيران، ووجهت ضربات موجعة للبنية الأمنية والعسكرية. وما بدا لافتًا للغاية هو الضعف الهائل لمنظومات الدفاع الجوي والقدرات الجوية الإيرانية، حيث أعلنت إسرائيل عن نجاحها في تدمير عشرات بطاريات الدفاع الجوي وآلاف الرادارات، مما أدى إلى انكشاف شبه كلي للسماء الإيرانية وفقدان الردع والحماية الجوية بشكل شبه كامل. ونتيجة لذلك، تمكنت إسرائيل من خلق حرية حركة شبه كاملة، خصوصًا في غرب ووسط إيران.
وبالنسبة للتقدير الإسرائيلي العام، لم تكن هذه العملية مجرد عملية عسكرية، بل تحقيقًا لهدف استراتيجي طالما سعت إليه المؤسسة الأمنية والسياسية: توجيه ضربة مباشرة للبرنامج النووي الإيراني. وبالنسبة لبنيامين نتنياهو، فإن الحرب مثّلت تتويجًا لمسيرته السياسية، إذ طالما قدّم نفسه على أنه الرجل الذي سيمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وأنه هو المخلّص لشعب إسرائيل من خطر الإبادة النووية.
في مقابل هذه النشوة, تشير تقديرات العديد من أجهزة الاستخبارات أن الضربة الأمريكية التي استهدفت مفاعل فوردو ونطنز واصفهان بقاذفات شبحية من طراز B-2 وصواريخ توماهوك كانت ضربة موجعة ومؤثرة ولكن غير قاتلة ولم تقض على البرنامج النووي الإيراني, وإنما ارجعته عدة أشهر إلى الوراء, وذلك يأتي متناسبا مع الرواية الإيرانية التي تدعي أن المفاعل كان قد تم إخلاؤها قبل ذلك بأيام, وهو ما يطرح تشكيكًا حقيقيًا في ادعاء اسرائيل والولايات المتحدة تدمير البرنامج النووي.
بشكل عام، كان الهدف الاستراتيجي لإسرائيل إحداث فوضى وفراغ سلطوي في المراكز السياسية والعسكرية الإيرانية بهدف إسقاط النظام، لكنها فشلت في ذلك بعدما استعادت إيران بسرعة زمام القيادة والسيطرة وشنّت ضربات مؤثرة على العمق الإسرائيلي، مما أجبر إسرائيل على خفض سقف أهدافها إلى تدمير البرنامج النووي ومشروع الصواريخ الباليستية. رغم أن إيران أدارت ردها الدفاعي بشكل محسوب وفاجأت تل أبيب، إلا أنها أخطأت في تقدير حجم ونطاق الصراع منذ السابع من أكتوبر، ورغم محاولاتها تفادي الانخراط في مواجهة مباشرة أو الانجرار إلى حرب شاملة، فإن كرة اللهب اندفعت لتصل إلى قلب طهران، كاشفةً عن نقاط ضعف عميقة تراكمت على مدى سنوات.من جهة أخرى، ارتكبت إسرائيل خطأ استراتيجيًا جوهريًا باعتقادها أن مواجهة إيران يمكن أن تُدار بنفس تكتيكاتها ضد حزب الله، وتوقعت أن الضربات التي أضعفت حزب الله ستُركع النظام الإيراني، لكن الواقع أكد أن إيران كدولة ونظام سياسي متكامل تمتلك قدرة صمود وردع تختلف جوهريًا عن تنظيم مسلح، مما استوجب استراتيجيات أكثر تعقيدًا بعيدًا عن نموذج حزب الله.
أما على الصعيد السياسي، فقد بدا واضحًا استياء إيران العميق من الموقف الروسي البارد والضعيف، فعلى الرغم من توقيع البلدين اتفاق شراكة استراتيجية شاملة في مختلف المجالات، لم يُترجم هذا الاتفاق على الأرض عند أول اختبار حقيقي. السبب في هذا التردد الروسي لا يقتصر على محاولة موسكو الموازنة بين علاقاتها مع إيران وإسرائيل، بل يعكس حالة من الضعف وتراجع الحضور الإقليمي والعالمي نتيجة الاستنزاف العميق الذي تعرضت له روسيا خلال أكثر من ثلاث سنوات من حربها في أوكرانيا. ويكفي الإشارة إلى أن سقوط نظام حليفها الأسد في سوريا وخروج سوريا من الوصاية الروسية أوضح دليل على هذا التراجع الكبير في النفوذ الروسي وفي تأثيرها الإقليمي والعالمي، ما يعكس عجزًا استراتيجيًا حقيقيًا لديها.
في ظل هذا الفتور من موسكو، بدأت طهران تتجه شرقًا، وتحديدًا نحو بكين، سعيًا لتعويض الخسائر الكبيرة التي تكبدتها خلال الحرب الأخيرة، وفشل قدراتها الجوية السابقة في تأمين أجوائها وخلق ردع جوي أمام إسرائيل. وقد شرعت بالفعل في اتصالات مع الصين لشراء مقاتلات حربية متطورة، ومنظومات دفاع جوي ورادارات متقدمة، في إطار سباق تسلح متصاعد تحضيرًا للمواجهة القادمة بينهما. وفي ذات السياق، أكد المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية على ضرورة استعداد تل أبيب لهذا السباق، مشيدًا ومؤكدًا ضرورة الحفاظ على التفوق الاستخباراتي والاستراتيجي الذي أظهرته القدرات الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة.
في مقابل ذلك كله، بدا لافتًا للغاية عدم مشاركة حلفاء إيران، أو كما تسميهم إسرائيل “أذرعها” في المنطقة مثل حزب الله والحوثيين والفصائل العراقية، في الحرب دعمًا لطهران. ويأتي ذلك في إطار نجاح إسرائيل، ومن ورائها أمريكا، في فك مبدأ وحدة الجبهات بين أعضاء محور المقاومة إلى حد كبير، إذ انتهجت إسرائيل استراتيجية لفك ارتباط الجبهات والاستفراد بها واحدة تلو الأخرى حتى وصلت إلى الرأس وهي إيران. في الواقع، يعكس هذا الأمر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها إيران والمحور بعدم قراءة الموقف الإسرائيلي بشكل صحيح، ما كلفهم الكثير.
حزب الله، على سبيل المثال، انتهج سياسة “حرب الحافة” أو “نصف حرب” استنزفت الحزب عسكريًا وداخليًا على مدى سنة كاملة، في ظل تصعيد غير متناسب مع إسرائيل. كانت هذه السياسة قائمة على مواجهات محدودة وغير حاسمة، مع ردود باهتة وغير متناسبة على اغتيالات قادته العسكريين، ما أتاح لإسرائيل توسيع قواعد الاشتباك تدريجيًا والتصعيد التدريجي ضد الحزب. هذا التردد في الرد وضعف المبادرة أضعف موقف حزب الله، وجعل استنزافه العسكري والداخلي يتفاقم حتى تحول التصعيد إلى حرب مدمرة على لبنان وعلى الحزب نفسه، حيث تكبد خسائر جسيمة شملت تفجيرات أجهزة البيجر، اغتيال قادة الصف الأول العسكريين، تدمير قدراته العسكرية والاستراتيجية، ووصولًا إلى اغتيال الأمين العام حسن نصرالله وخليفته هاشم صفي الدين وفقدانه لمنظومات القيادة والسيطرة. هذا كله يعكس أخطاء استراتيجية جسيمة في تقييم طبيعة الصراع مع إسرائيل وإدارة المواجهة أوصلت الحزب النتيجة الكارثية التي حلت به.
وفي سياق هذه الحرب وبعد الضربات التي تلقاها في الحرب الأخيرة، وجد حزب الله نفسه في وضع حرج يمنعه من الانخراط الفعلي في الحرب دعماً لطهران. فقد كبّلته ضغوط داخلية تطالب بحصر قرار الحرب والسلم بيد الدولة اللبنانية، وضغوط خارجية ربطت المساعدات وإعادة الإعمار بنزع سلاحه، إلى جانب وضعه العسكري المتآكل نتيجة الاستنزاف المتواصل. كما أن إسرائيل وجّهت تهديدات مباشرة للحزب والدولة اللبنانية، بأن أي تورط من الحزب سيقود إلى حرب شاملة تُدمّر المرافق الحيوية في البلاد. لذلك، بات قرار دخول حزب الله الحرب أقرب إلى انتحار سياسي.
لذا، يمكن القول إن ما حدث مع حزب الله شكّل ردعًا واضحًا أمام الحوثيين والفصائل العراقية من احتمال تعرضهم لنفس المصير. ولذا كانت الفصائل العراقية قد أعلنت سابقًا استعدادها لتسليم سلاحها واندماجها تحت جناح الدولة العراقية، خوفًا من حملة إسرائيلية أو أمريكية تستهدف قادتهم ومواقعهم، ونتيجةً لضغوط متزايدة من الحكومة العراقية، وخشيةً من أن يتوسع نطاق الحرب ليشمل العراق بشكل مباشر، ما دفعها لعدم اتخاذ أي إجراءات عسكرية أو هجومية دعمًا لإيران.
أما الحوثيون، فهم في حالة هدنة مع الولايات المتحدة بعد وساطة عُمانية ناجحة قبل عدة أشهر. وعلى الرغم من إدانتهم للحرب على حليفتهم طهران و دعمهم وتضامنهم الكامل لها، إلا أنهم نأوا بأنفسهم عن الانخراط المباشر في الحرب خشية التداعيات الثقيلة، خاصة مع وجود تهديد أمريكي حقيقي بتجديد الحملة الجوية عليهم. وتجدر الإشارة إلى تداول وسائل الإعلام الإسرائيلية خبر استهداف اجتماع لكبار القادة العسكريين للحوثيين، ما أدى إلى إصابة قائد الأركان محمد الغماري، ويمكن اعتبارها رسالة تحذيرية شديدة لهم بعدم الانخراط لصالح طهران في المواجهة، وهو ما تحقق فعلًا.
بشكل عام، يمكن القول إن إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، نجحت إلى حد كبير في ضرب جوهر محور المقاومة، الذي كان قائمًا أساسًا على مبدأ وحدة الساحات وأن العدوان على أحد أعضائه هو عدوان على الجميع. وهذه خسارة استراتيجية كبيرة لإيران والمحور على حد سواء، وتثير تساؤلات جدية داخل إيران حول جدوى مليارات الدولارات التي أنفقتها على تسليح هذه الأذرع على مدى عقود.
إجمالًا، يمكن القول إن هذه الحرب قد كشفت الكثير من الأوراق لدى الأطراف وأظهرت القوة الحقيقية لكل طرف، ورغم أن وقف إطلاق النار لا يزال نافذًا حالياً، فمن المحتمل ألا يستمر طويلًا بسبب هشاشته. الصراع بين طهران وتل أبيب لم ينته ولن ينتهي بسهولة، فهو صراع جيوسياسي أيدولوجي ذو طابع وجودي يمتد لأكثر من خمسين عامًا. في الوقت ذاته، المفاوضات الأميركية الإيرانية المتوقعة تبدو مجرد مشهد ثانوي مقارنة بالأجندة الإقليمية الأكبر التي ستتبلور قريبًا، حيث سيتركز الجهد على إنهاء الحرب على غزة، واستئناف مسلسل التطبيع، وتشكيل شرق أوسط جديد, ما لم يكن بالطبع مفاجآت، وهو ما لا يزال السابع من أكتوبر يفاجئنا بالكثير منها حتى اليوم.
بقلم ادم محمد قيس
