المجزرة و “الوليمة”
عصام مخول
الاضراب العام للجماهير العربية في إسرائيل في الذكرى السنوية الأولى للمجزرة في أكتوبر 1957
حسم تاريخيا طريق الجماهير العربية الكفاحي وخيارها للمواجهة !
برغم فظاعة المجزرة المروعة التي ارتكبتها دولة إسرائيل الفتية ضد عمال وفلاحي بلدة كفر قاسم في التاسع والعشرين من تشرين الأول 1956، في تزامن مع بدء العدوان الثلاثي الاستعماري بمشاركة إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على مصر عبد الناصر ، الا أن اليوم الفارق في حياة الجماهير العربية في إسرائيل والذي أسّس لطريقها الكفاحي في علاقتها مع مؤسسة القمع والاضطهاد القومي الحاكمة في إسرائيل ، هو بامتياز يوم التاسع والعشرين من تشرين الأول 1957، يوم الذكرى السنوية الأولى للمجزرة.
لقد ارتكبت إسرائيل الرسمية بقيادة مؤسسها دافيد بن غوريون مجزرة كفر قاسم المروعة والمخطط لها، اعتمادا على تجربة العصابات الصهيونية الطويلة والمكثفة في ارتكاب المجازر إبان نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948، لكنها ارتكبت مجزرتها الإرهابية في هذه المرة باعتبارها دولة رسمية ومعترف بها تمارس الإرهاب الدموي ضد مواطنيها العرب لترويعهم وترحيلهم، وراح ضحيتها 49 شهيدا وشهيدة من سكان كفر قاسم العائدين من أعمالهم ومن أراضيهم بعد أن أعلن جيش “الدفاع” وحرس الحدود حظر التجول بشكل مفاجئ بحجة الحرب العدوانية على مصر .
وكان واضحا منذ البداية أن المؤسسة الحاكمة في إسرائيل هدفت الى استغلال انشغال الرأي العام المحلي والعالمي بالحرب العدوانية الاستعمارية القذرة التي شنتها الى جانب عجائز الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا لإسقاط حكم عبد الناصر الوطني ، من أجل “تصحيح” ما فات المؤسسة الصهيونية أن تنجزه في نكبة العام 1948، ومواصلة مسارها من النقطة التي توقفت النكبة فيها قبل ثماني سنوات بوسائل النكبة نفسها ، مع ما يعنيه ذلك من دفع الفلسطينيين الباقين في وطنهم ، أهل البلاد الأصليين ، الى الرحيل عن بيوتهم والهرب من المجازر مرة أخرى بدءا من بلدات المثلث الجنوبي، ودفعهم بالنار والدم الى البحث عن موطئ خيمةٍ في مخيمات اللجوء ، كما حدث في أعقاب مجزرة دير ياسين المروعة في نيسان 1948 من جهة، والى إخضاع من تبقى من الجماهير العربية في إسرائيل نهائيا وتدجينهم بإرهاب الدولة ومجازرها من الجهة الاخرى.
والمثير للتقزز هو أن حكومة بن غوريون لم تكتف بارتكاب المجزرة الرهيبة بل تجاوزت كل أشكال العهر السياسي آنذاك ، عندما فرضت على أهالي كفر قاسم بالترهيب والموت تنظيم “صلحة عشائرية” – بوليمة تثير التقيؤ – اشترك فيها رجال السلطة من وزراء وعسكريين وقادة حرس الحدود . يقول إميل حبيبي فيها : “اعتبرنا هذه الوليمة وبحق ، مجزرة أخلاقية أشد بشاعةً من مجزرة كفر قاسم “. (كتيب بعنوان “كفر قاسم .. المجزرة – السياسة” صدر في الذكرى ال-20 للمجزرة عن منشورات عربسك ).
وبالرغم من محاولات حكومة اسرائيل المستميتة التعتيم على المجزرة التي ارتكبتها – كما تعرف أن تعتّم على المجازر حتى يومنا هذا – ومحاولتها إخراس كل صوت يتحدث او يستجوب عن ملابساتها ونتائجها ، وإلزام رئاسة الكنيست بشطب خطابات النائب الشيوعي العريق توفيق طوبي من بروتوكولات الكنيست بأمر من بن غوريون ، لئلا تسجّل المجزرة المروعة في تاريخ الدولة وملفات تاريخها الملوث أصلا, فقد نجح القائدان الشيوعيان النائبان توفيق طوبي وماير فلنر بالتسلل عبر الجبال- من دون أن تشفع لهما حصانتهما البرلمانية – في اختراق الحصار الخانق الذي فرضه الجيش وحرس الحدود حول كفرقاسم لأسابيع طويلة وتسجيل شهادات الناس المذهولين والمروّعين حول تفاصيل المجزرة الرهيبة ، وفي قيام توفيق طوبي بتوزيع مذكرة مفصلة وفاضحة أرسلها الى الأمم المتحدة وشخصيات عالمية وإسرائيلية بارزة فاهتزت الأرض من تحت أقدام حكومة المجزرة وعقلية إرهاب الدولة.
معركة البقاء في الوطن – مفخرة شعبنا الفلسطيني
في الماضي كما في الحاضر وردنا على المجازر!

إن ما فات حكومة بن غوريون وهي تخطط لمجزرة كفر قاسم في هذا الوقت المبكر من تاريخها ، هو وجود قيادة شيوعية مجربة ومسؤولة على رأس معركة الجماهير العربية في إسرائيل ، ما زالت تخوض معركة البقاء في الوطن ، وما زالت تقود معركة التصدي للحكم العسكري ولعمليات الطرد والتشريد والمصادرة والافقار والتجويع ،
هي التي صقلت وعي ضحايا الاضطهاد القومي، وهي التي قادت انتقال الجماهير العربية الباقية في وطنها من نفسية النكبة والمجزرة الى نفسية الصمود والكفاح ، ومن إحباط الضحية النازفة الى بناء ثقتها بنفسها كقوة مناضلة تعي قدرة الكف على ملاطمة مخرز الاضطهاد القومي ، وقدرة وحدتها الكفاحية على الصمود واستقطاب تضامن القوى التقدمية اليهودية في إسرائيل والقوى التقدمية في شتى انحاء العالم كلما صقلت جاهزيتها الكفاحية أكثر لخوض معاركها العادلة ، ليس من أجل البقاء في وطنها فقط ، وانما من أجل حقها في العيش الكريم والتطور المتساوي في وطنها والدفاع عن حقوقها القومية والمدنية.
في العام 1956 على بعد ثماني سنوات من النكبة وجراحها الطرية، لم تكن المجزرة الإرهابية التي ارتكبتها الدولة في كفر قاسم هي الامر الغريب والمفاجئ في المشهد، لكن الأمر المذهل الذي قلب حسابات حكومة المجزرة رأسا على عقب ،تمثّل في الجرأة على إعلان الاضراب العام الحدادي والاحتجاجي في 29 تشرين اول 1957 تحت شعار:” شعبنا شعب حي ، دمه ما بصير مي” ، إحياء لذكرى شهداء كفر قاسم ورفضا لعقلية المجزرة ، بدلا من الرضوخ الذليل لإرهاب الدولة المنظم.
ونشرت الاتحاد أن النائب توفيق طوبي كان قد توجه الى كفر قاسم برفقة ستة من رفاق الطيبة ، فإذا بحاجز عسكري يوقف سيارته ويعلن الجنود والشرطة انهم يعتقلونه وصحبه ويمنعونه من دخول القرية في اعتداء فظ على حصانته البرلمانية، فاعترض طوبي على العدوان فأوقعوه أرضا ومزقوا قميصه وأطلقوا الرصاص في اتجاهه واعتقلوا مرافقيه.
وجاء في افتتاحية الاتحاد صبيحة الاضراب:”من خلال ظلام الاضطهاد الحالك يجب أن نذكر ، وأن يذكر أعداؤنا ، في يوم احياء ذكرى كفر قاسم أن قوة الجماهير لا يمكن قهرها ، وأن جماهير الشعب لا يمكن إذلالها ، فهذه الجماهير أثبتت دائما تصميمها على النضال ، وعلى البقاء وعلى الحياة الحرة الشريفة في وطنها .”
ونشرت الاتحاد غداة الاضراب العام في عدد الأول من نوفمبر 1957،
وصفا شاملا للاضراب في الناصرة وفي جميع القرى العربية بالإضافة الى اجتماعات التضامن الاحتجاجية التي عقدها حزبنا الشيوعي في العديد من المدن اليهودية وعلى رأسها تل ابيب والقدس.
وكتبت الاتحاد عن الاضراب في الناصرة: ” وباقتراب لحظة انتهاء الاضراب أخذت الجماهير تتجه نحو ساحة الكراجات في المدينة، وتجمهر الألوف في الساحة حيث القى عضو الكنيست إميل حبيبي كلمة فيها ، الا أن “قوات الامن” هاجمت المحتشدين بضراوة ، وأوقعت الخطيب أرضا واعتدت عليه مستهينة بحصانته البرلمانية آنذاك “.
في الاضراب العام في الذكرى السنوية الأولى لمجزرة كفر قاسم ، افتتحت الجماهير العربية في إسرائيل بقيادة الشيوعيين مرحلة جديدة ومعادلة جديدة في حياتها وفي وعيها لذاتها، ووعيها لحقها في النضال الشامخ وفي كي وعي الدوائر الحاكمة في إسرائيل بأن لحم الأقلية القومية العربية الباقية في وطنها والمواطنة في إسرائيل ، كان وسيبقى مرا على مرتكبي المجازر والقمع ، فأسست بذلك للمواجهة البطولية مع قوات البطش الحكومية التي تواصلت في مظاهرة الناصرة التاريخية في العاشور في الأول من أيار في العام التالي 1958 التي جبلت من جديد صلابة الجماهير العربية بقيادتها الشجاعة والمسؤولة . وأسست للمعركة على اسقاط الحكم العسكري نهائيا في العام 1966، وأسست ليوم الأرض الخالد بعد عشرين عاما، وأسست لكل أيام النضال والوحدة الكفاحية