وأخيرًا، حقق نتنياهو حلمه بقصف إيران ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وردّت إيران على نتنياهو بقصف المرافق العسكرية والمدنية في إسرائيل. حرب نعرف كيف بدأت، ولكننا لا نعرف لماذا انتهت. كل ما نعرفه أن الرئيس الأمريكي قد أمر الطرفين بوقف إطلاق النار، و”نهرهما” علنًا بعد محاولتهما خرق إعلان وقف إطلاق النار، فعادت الطائرات الإسرائيلية إلى قواعدها دون أن تُنهي مهمتها.
حرب أسرارها أكثر بكثير مما يعرفه ضحاياها وقيادات العالم. ولكن من يتابع المصالح التي تقف وراء هذه الحرب، والقوى المستفيدة منها من وراء الكواليس، يكتشف أن ما يحدث على الشاشات هو جزء من الحقيقة، لكنه حقائق مبتورة غير مكتملة. سأحاول تحليل المصالح من وراء الأحداث وتقديم بعض المقترحات للتعامل مع التطورات والتأثير على الأحداث المتوقعة.
ملوك النفط، الثورة الإسلامية الإيرانية وتحديات القومية
واجهت منطقة الشرق الأوسط صراعًا شرسًا بين الأنظمة الديكتاتورية الموالية لمصالح الولايات المتحدة، والأنظمة التي اعتبرت نفسها قومية منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى اليوم. قاد عبد الناصر التيار القومي وتقرب من اليسار العالمي كالاتحاد السوفييتي، كوبا، والجزائر. وحاول التقرب من الأنظمة المناصرة للغرب، لكنه اكتشف أنانيتها وجشعها وخيانتها مرة تلو الأخرى. ودخل في أزمة مع الاتحاد السوفييتي، وحاول بناء تيار “دول عدم الانحياز” على أمل أن تنجح هذه الدول في التفاوض مع الدول العظمى. لم تنجح هذه المحاولة واضطرت الدول إلى اتخاذ مواقف موالية لمصالح القوى الكبرى.
استثمر الاتحاد السوفييتي في عدد من الحركات والأنظمة مثل البعث السوري والعراقي، والأحزاب الشيوعية، وحركات التحرر في الشرق الأوسط، كما فعل في أمريكا الجنوبية وأفريقيا. ومع سقوط الاتحاد السوفييتي، اضطرت هذه الأنظمة إلى البحث عن طريق لبقائها والحفاظ على وجودها. وللأسف، قامت الحركات القومية بأخطاء جسيمة أفقدتها ثقة شعوبها، وسقطت في العراق واليمن وليبيا ومؤخرًا في سوريا. تحالفت هذه القوى مع المشروع الإيراني في مواجهة التدخل الاستعماري، الذي تحالف مع دول الخليج علنًا ومع إسرائيل في الخفاء.
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت الصين في بناء اقتصاد قوي، وطورت مشروعها السياسي والاقتصادي، ونجحت في بناء تحالفات جديدة، وفتحت أمامها أسواقًا جديدة، واعتمدت على تطوير القوى العاملة الصينية وخبرة شعب تجاوز عدده المليار. واصلت الولايات المتحدة محاصرة أنظمة اشتراكية مثل كوبا، فيما انتصر شعب جنوب أفريقيا على حلفاء الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا. لكن المنظومة الدولية تحركت باتجاه تقوية رأس المال للشركات العابرة للقارات وسيطرتها على السياسة والاقتصاد، على حساب الإنتاج المحلي.
رغم استعادة روسيا لدورها في مواجهة هيمنة أوروبا والولايات المتحدة، بحث النظام الرأسمالي الروسي الجديد عن أسواق جديدة لمواجهة قوى الاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة. ودخل الصراع إلى مرحلة المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، التي تحولت إلى ساحة مواجهة مع القوة الاقتصادية والعسكرية الروسية. وطلبت الشركات الأمريكية والأوروبية من حلفائها أن يقفوا إلى جانب أوكرانيا، كجزء من منظومة الدفاع عن أوروبا في مواجهة روسيا. وبطبيعة الحال، وقفت قطر والإمارات إلى جانب أوروبا والولايات المتحدة، ووضعتا تحت تصرفهما جهازهما الإعلامي والمالي، خلال حرب روسيا وأوكرانيا.
تحرك الرئيس السابق للولايات المتحدة، جو بايدن، للدفاع عن مصالح الشركات التي دعمته ودعمت حلفاءه في العالم، بما في ذلك إسرائيل وأوكرانيا وأوروبا. وقد وفرت شركات الأسلحة الأمريكية كل ما هو مطلوب لإدارة المعارك في غزة وأوكرانيا.
أدى تغيير الرئيس الأمريكي في الانتخابات الأخيرة إلى تغيير في المصالح الاقتصادية، فظهرت شخصيات جديدة تملك العقارات وشركات الاتصالات والأسلحة والنفط، وتتحرك بحرية في البيت الأبيض. ويعتبر ترامب مصالحه في مواجهة الصين واستغلال النفط والغاز في الشرق الأوسط أولوية، تفوق دعمه لأوكرانيا في مواجهة روسيا. وقام بإهانة الرئيس الأوكراني علنًا، وطلب من كندا الانضمام كولاية للولايات المتحدة، وأعلن أنه ينوي شراء جزيرة “غرينلاند” الاستراتيجية من الدنمارك.
رأينا نتائج هذا التغيير في أولويات الشركات الأمريكية، التي دعمت ترامب، أسرع مما توقع المجتمع الدولي. دخل ترامب إلى البيت الأبيض مع طواقم جاهزة لتوسيع الأسواق وتحسين الوضع الاقتصادي لناخبيه، خصوصًا في الولايات التي دعمته. قرر رفع الجمارك على استيراد وتصدير المنتجات مع عدد كبير من الدول، وبلورة اتفاقيات اقتصادية تخدم مصالح الشركات الأمريكية وترفع من مستوى دخل الخزينة الأمريكية، المديونة بأكثر من 35 تريليون دولار.
وعلى المستوى الداخلي، باشر بتنفيذ مخطط لطرد المهاجرين من أمريكا اللاتينية، وطالب حكومات هذه الدول باستعادة مواطنيها، لحل جزء من أزمة تشغيل العمال الأمريكيين. وعمّق الحصار على دول أمريكا الجنوبية، ودعم رئيس الأرجنتين، الذي يعتبر حليفًا فكريًا واقتصاديًا، ويضع موارد الأرجنتين تحت تصرف الشركات الأمريكية العابرة للقارات.
أنظمة الخليج تستنجد بترامب
جاءت زيارة ترامب إلى الشرق الأوسط ضمن مشروع بادرت إليه دول الخليج، التي تذمرت من سياسة بايدن في المنطقة. ومن يتابع ما يحدث في الكونغرس ومؤسسات اتخاذ القرار في واشنطن، يلاحظ التعاون الوطيد بين لوبيات تموّلها دول الخليج على أنواعها، و”أيباك”، وشركات الأسلحة والنفط الأمريكية. تنسق هذه الهيئات فيما بينها في عملية إقناع صناع القرار الأمريكي. وجاءت زيارة ترامب بهذه السرعة إلى دول الخليج، ضمن الجهد المشترك لهذه الدول والشركات التي تقف خلفها، لحماية العائلات المالكة التي تسيطر على موارد النفط، وتنافس المشروع الإيراني في الشرق الأوسط.
فبعد أن فشلت الولايات المتحدة في إسقاط الخميني عام 1979، جندت صدام حسين لمواجهة النظام الجديد في إيران، والذي بدوره بدأ في البحث عن حلفاء في المنطقة. بينما يتهم البعض إيران بأنها تسعى للتمدد في المنطقة عبر أدوات مذهبية وتوسيع نفوذها، فإن روح الله الخميني نفى ذلك بقوله:
“إننا نعني بتصدير ثورتنا: أن تستيقظ الشعوب والبلدان، وأن تنقذ نفسها من المعاناة التي تعيش فيها، وتخرج من هيمنة الآخرين الذين ينهبون ثرواتها، بينما تعيش هي الفقر والحرمان”.
لم يفهم المشاهد للفضائيات ووسائل الإعلام الغربية سبب اندفاع أنظمة الخليج لتحويل أموال بقيمة تفوق 4 تريليونات دولار لترامب خلال زيارته. هذه الأموال كانت، عمليًا، الدفعة الأولى لتمويل العمليات العسكرية الإسرائيلية في إيران.
إسرائيل تحرس مصالح شركات الأسلحة والنفط الأمريكية
من يتابع الاقتصاد الإسرائيلي يجد أن الشيكل يواصل الحفاظ على قوته، وكأن إسرائيل لا تخوض منذ أكتوبر 2023 معركة عسكرية تكلف الاقتصاد المليارات. لم تدفع إسرائيل، منذ بداية المعركة، ثمن الأسلحة التي حصلت عليها، رغم وصول أكثر من 15 طائرة محملة بأفضل الصواريخ للطائرات والدفاعات الجوية الإسرائيلية. وقد قامت وزارة المالية الأمريكية بمحاسبة شركات الأسلحة من الأموال التي حصل عليها ترامب من أنظمة الخليج، والتي ستُعرض أمام المواطن الأمريكي على أنها “مساعدات أمنية أمريكية لإسرائيل”.
تخفي وسائل الإعلام الإسرائيلية أن تكلفة الأسلحة المستخدمة في إيران يتم تغطية جزء منها من مصادر مجهولة، هي في الأساس أموال ملوك وأمراء الخليج المعنيين بترجيح الكفة لصالحهم في معركة التأثير على موقف الشعوب في الشرق الأوسط. تقوم كل دولة بدور مختلف، لكنها تستغل مأساة الشعب الفلسطيني للسيطرة على شعوبها، والحفاظ على مصالح الطبقة الحاكمة في هذه الدول ومواردها. وقد خدعت هذه الأنظمة “حماس”، ودفعَتها إلى معركة أدت إلى تدمير غزة. ويشهد العالم، بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص، ما يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، دون أن يتحرك.
تخشى دول الخليج الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، فقامت بتمويل الصراعات العسكرية الدموية بينها وبين إيران على أراضي العالم العربي، من العراق إلى اليمن وليبيا ولبنان وسوريا. شعرت هذه الأنظمة أن لحظة الحسم قد أتت، عقب الضربة التي تلقاها حزب الله في لبنان، وسقوط نظام البعث في سوريا. وربما كان القصف الإيراني الرمزي للمواقع العسكرية الأمريكية في قطر هو ما حرّك دول الخليج للاستنجاد بترامب لوقف فوري للحرب. وهي المرة الأولى التي يتم فيها استهداف دول الخليج منذ اجتياح صدام حسين للكويت.
القضية الفلسطينية
تحولت القضية الفلسطينية، عقب المجزرة التي تُنفذ في غزة، إلى أهم قضية يتضامن معها الحراك الشعبي في العالم، وخاصة في العالم العربي. وقد فهمت حركة “حماس” أن قطر استغلتها لمصالحها، فغادرت قياداتها الدوحة دون رجعة، ودون اتخاذ قرار واضح حول مقرها المستقبلي. وأصبحت أكثر حذرًا في التعامل مع الأنظمة العربية والإسلامية، خاصة بعد اغتيال إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية.
من يتابع تعامل النظام المصري مع المتضامنين الدوليين الذين وصلوا إلى مصر في طريقهم إلى رفح، يدرك حجم الدور المصري في تهجير وتدمير الشعب الفلسطيني. نحن الآن في مرحلة تدمير الشعب الفلسطيني، ولسنا فقط في مرحلة تدمير “حماس”، التي تعاني من أزمة عسكرية واقتصادية مصيرية.
استهداف المدنيين وتهجيرهم بالشكل الذي تمارسه إسرائيل، يؤكد أن الهدف هو تقليص عدد الشعب الفلسطيني وتهجيره. القضية الفلسطينية ستدخل مرحلة جديدة، تتضمن محاولة تنفيذ مخطط لتهجير ملايين الفلسطينيين، ولن يقتصر ذلك على غزة، بل سيشمل الضفة الغربية، وأجزاء من الداخل، خصوصًا في النقب والمثلث، وربما يصل إلى الجليل.
هذا المخطط تضعه طواقم سموتريتش وبن غفير، التي تسعى للسيطرة على المؤسسات الأمنية، والقضائية، والمالية، والسياسية في إسرائيل، رغم حجمها العددي الصغير.
من يتابع أوامر الهدم في القرى غير المعترف بها في النقب، وأوامر هدم المنازل في المثلث والجليل والمدن الساحلية، وحملة نزع الشرعية عن أيمن عودة وكتلة الجبهة، يدرك أن المعركة على “الجبهة الرابعة”، كما سماها بن غفير، قد دخلت حيز التنفيذ قبل الانتخابات المقبلة.
ما العمل؟
بعد تحليل هذا الواقع المركب، علينا البحث عن وسائل لمواجهة هذه المخططات، لحماية الوجود الفلسطيني ومنع التهجير، والاستمرار في تثبيت من بقي في الوطن، وبناء مستقبلنا الفردي والجماعي.
علينا تجنب تحركات غير محسوبة تسمح للطرف الآخر بتنفيذ مخطط التفريغ، والمساهمة في التقدم نحو مرحلة مصالحة تاريخية.
المجتمع اليهودي مأزوم، ويعاني من أزمة قيادة، ومحاصر إعلاميًا ضمن منظومة تسوّق مشاريع دموية ليست في مصلحة المواطن العادي. علينا إيجاد آليات تشرح للمجتمع اليهودي مسؤوليته، وتدفعه للخروج من حالة الحرب مع شعوب المنطقة، والبحث عن قيادة جريئة تقوده إلى مرحلة جديدة. هذا يتطلب بناء جهاز إعلامي بديل، إلى جانب عمل شعبي وسياسي داخلي.
المجتمع الفلسطيني في الداخل بحاجة للحفاظ على استقلالية قراره السياسي، ومنع تدخل الأنظمة العربية، مثل الإمارات وقطر، التي تحاول التأثير في حياتنا السياسية والثقافية. يجب أن تعتمد خطط عملنا على قدراتنا ومكانتنا الخاصة.
علينا تعميق التنظيم الداخلي لمؤسساتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، والتأكيد على أهمية الاستقلالية، والتحالف مع القوى التقدمية المحلية والعالمية، ومنع محاصرتنا في العمل والتعليم، وخلق تحالفات تحمينا كأفراد وجماعة. ويجب أن تتضمن خططنا مشاركة فعالة في العمل النقابي.
حركات التضامن الدولية تشكل تحديًا حقيقيًا للحكومات، ويجب العمل بشكل منهجي لتحويل هذا الحراك إلى قوة سياسية، تقود التغيير حتى في الولايات المتحدة. فالغضب الشعبي من تصرفات ترامب قد يساهم في تغيير شكل الكونغرس خلال الانتخابات المقبلة.
الشعوب العربية تعاني من القمع وغياب تصور سياسي تقدمي. بعد سقوط أنظمة مثل بشار، الأسد، والقذافي، أصبح من الضروري بلورة مشروع وطني تقدمي، يطرح بديلًا فكريًا حقيقيًا للتحرر من أنظمة العفن السياسي.
الشعب الفلسطيني مطالب الآن بأن يلزم أحزابه السياسية بتحمل مسؤوليتها، والتوصل فورًا إلى تفاهمات تخرج الفلسطينيين من أزمتهم. فبعد تدمير “حماس”، ستكون السلطة الوطنية هي الهدف المقبل.
هذه مساهمة أولية لفهم ما حدث، ووضع اقتراحات للحوار، واتخاذ القرارات، وبلورة خطة عمل، وتنفيذها للخروج من حالة رد الفعل التي دخلنا فيها في السنوات الأخيرة. وهذه دعوة لحوار فلسطيني مسؤول، ضمن فترة زمنية محددة، نبلور خلالها خطة واضحة، ونوزع المسؤوليات، ونتابع التنفيذ بسرعة وصرامة.
تصوير محمد خليلية
